For your copy-and-pasting pleasure.
غريب والغربة سترة حال
* مثل كل الخسارات الفادحة، مثل أن يرحل النيل أيضاً، مثل أن يسرقنا العالم الأول سواد عيوننا، مثل أن يتوقف القلب عن الحب، لقد مضى إلى هنالك بحسرة العبقرية، ولم نهتم، ولم نكترث كوننا أضعناه، وأي هرم أضعناه ؟!
* في ذلك الشتاء النيفاشي العنيد تحلقوا في قاعة الصداقة قبالة شارع النيل، جلسوا يتفرسون في وجوه بعض، يتبادلون الابتسامات المنمقة، يتدثرون بأفخم الأزياء والماركات العالمية، وكل منهم يمني نفسه بنوبل للسلام .. في ذلك الشتاء لم يكن أحد يظن أنه اللقاء الأخير .
* وقبال ما الصور تنشال: وقف رجل من أقاصي المدينة وهو يبشر بعصاه الأبنوسية، والمغني يسترسل في البكاء، كان أوبريت الشريف الهندي يتصاعد عالياً، عالياً في أرجاء المكان، وتتناثر الرسومُ ذاتُ الأصداء مع صوت زغرودة سلام مخنوقة بين اللوزتين، والشريف بصوت الكابلي يحيط بالمكان شموخاً ووطنية “سلام يا البقعة مبروكة الإله والدين.. حباب الحرروك لا انتماء لا دين.. حباب السودنوك، خلوك سمارة و زين”.. الفنّ ينشر الخير مثل ما ينشر الهواء اللقاح، أو كما قال أحدهم
* في تلك الحظة كان يتحلق حول المسرح، علي عثمان، عرمان، الدقير، عقار، تابيتا، عبد الرحمن المهدي، مناوي، البشير ومنصور خالد، ومنذها، منذ ذلك اللقاء أرخى الكابلي أوتار عوده وخرج من صالة المغادرة صامتاً حزيناً، خرج في رحلة اللاعودة، ولو شئنا الدقة فلنتواطأ على القول هرب بأحلامه البتول إلى أمريكا، هرب بأغنياته إلى هنالك حيث يضوع عطر الإنسانية، ولا يبدو الفن محض ترف، ووزارة الثقافة مجرد وزارة مهملة ومسفوحة على شاشة الوطن كمكياج المذيعات .
* خرج صاحب (الجندول) وأحكم خلفه البوابة الزجاجية المقوسة، خرج منكسراً وترك غصة من الألم تنبض في حافة الحلق، ترك الجنوب قد أخذ بعضنا ورحل جنوبا، والتهمته النيران وفتكت به وبنا الأمراض، وخارطة البلاد متهدلة كأحشاء البقرة الذبيحة، ترك أبار البترول قد نضبت، والمساحات الخضراء غطاها الجفاف، وعندما يهاجر المغني تستوي الخيبة والفجيعة، والليل والنهار، هاجر وتركهم يتزاحمون على كراسي السلطة، وذلك القصر المعروش بالأكاذيب، هاجر ومفاوضات السلام تنعقد لتنفض، والدولار سيد البلد، هاجر وتركهم يتجادلون في فلسفة الختان وأغاني الزنق، وحرجل محاسن، والمراحيض المنهارة، وخرشة شارع النيل، وزواج التراضي، والساعة المجرورة !
* هاجر ولم تعد الدلوكة تدق والناس تعرس وتنبسط بذات الدفء القديم، هاجر ودور السينماء مغلقة والمسرح احتلته فرق النكات والعبث، وبعض من (كتمت) و (ملف سري) تنازع الليالي، والمناخ تبدل تماما حتى كادت تختلط الفصول، وشارع الموت أكثر شراهة، وسيرة الاغتصاب في الجرائد تسد النفس، هاجر وترك حفلات الزواج (للقونات) والبندول يسبب الصداع.. والأسعار في صعود وأقدار الناس في هبوط، أو كما وصفها سيدي الطيب صالح .
* “وقُبّال ما الصور تنشال” تحدرت من مقلة النيلين دمعة شاحبة، وتغير طعم المياه ولونها، هاجر المغني وفجعنا بالهجران لأول مرة، هاجر حتى دون أن يكترثوا لغيابه، هاجر وصوته المعتق يملأ المكان حزناً، هاجر الفنان المثقف الذي غنى ليزيد وأبوفراس الحمداني وفتاة التحرير، وأفريقيا وأسيا، وخيالاته اللحنية لم تنضب، هاجر ونحن لم نشبع من سمر لياليه، هاجر من غنى لأي صوت زار بالأمس خياله وخيالنا، وتركهن قابعات في محلات الكوافير بانتظار الميج والأشياء المستعارة وشتول الحناء، ومع ذلك جمالهن يشوبه الواقع السيئ .
* وبعيد سنوات توسمنا فيه أن لا يكون هو ذاته الخيال الذي لا يرغب في زيارتنا أو أنه يفضل أن يعيش شيخوخته هنالك بلا ضوضاء .. فلو دفعوا كل أموال البترول والذهب والقطن والقروض الخليجية ولم يعيدوا الكابلي الأمريكي إلى وطنه بعد أن أعادوا العلاقات مع أمريكا فإن الخسارة فادحة، فادحة للأبد.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة
(
Atom
)
ليست هناك تعليقات