أخر الأخبار

أصول في أزمة الخليج / المحبوب عبدالسلام

For your copy-and-pasting pleasure.
في أعقاب المعارك الكبرى كثيراً ما شهد التاريخ، الخاسر والمهزوم يجلس صاغرا وتملى عليه الشروط المهينة المجحفة، والتي تسري عليه زمناً قبل أن تدور سنة التدافع بين البشر وتفضي إلى أحوالٍ جديدة. وإذ كانت البشرية في غالب دافعاتها تلجأ إلى السيف والقوة حكماً فاصلاً ويقرر صورة المستقبل فإن الإنسانية في تقدمها قد عادت إلى أصول فطرتها التي ظلت رسالات الأنبياء تهمي عليها بغيوثٍ وفيرة، فتشرق في الروح معاني العدل والحرية، ريثما يعود الإنسان كما نعرفه يفسد فيها ويسفك الدماء. إن تاريخ الفكر ليحفظ للإمام محمد عبده أنه أول من سجل أن بزوغ فجر الإسلام قد وافى نضوج الروح الإنسانية وتهيئتها للخلاص من الهمجية والظلم، كما وافى استقامة العقل ليتحرر من الخرافة والجهل، ويقبل المنطق والحكمة، فلم يزود نبي الإسلام إلا بكتاب مبين استهل عهده بكلمة اقرأ، وذلك جدل آخر.
التاريخ
لقد أرخت المعارك الكبرى والحروب المفصلية في تاريخنا المعاصر للاعتراف الرسمي من الأمم العظمى المنتصرة بالحقوق الأساسية للإنسان وإثباتها شرعةً دوليةً يتطلع لقبولها من الشعوب كافةً، بل وشهدت التجلي الأول للمنظومة الجامعة لدول العالم في عصبة للأمم، ريثما تتقدم لتكون الأمم المتحدة التي وضعت النواة الأولى لحكومة العالم في مجلس الأمن.
وإذ لم يصعد الإنسان أبداً ليوافق أفق مدينة الفلاسفة الفاضلة، فإن تاريخه لا يوالي صعوده قدماً أو هبوطه دركاً، إنما يتردد بين الخير والشر، ويدور في دورات الصعود والهبوط، ويُنـظِّر لليوتوبيا ولكنه يتقاعس عن مُثلها، فقد جاء تجلي الحلم مطابقاً لظرف الواقع التاريخي والنفسي، وتشكل مجلس الأمن من الأمم المنتصرة، في انتظار مرحلة أخرى من الموازين القسط والتمثيل الأعدل. 
في خضم هذا التاريخ جلس الأوروبيان المنتصران سايكس وبيكو، ليرسما خريطة العرب الجديدة، وفي مجرى منه قامت الدول العربية الحديثة، تشبه في مواثيقها ونظمها وهياكلها منتهى منجز التجربة الإنساني، وعلى وجه الدقة، منتهى خلاصة الفكر السياسي الأوروبي ونظمه، ولكنها في جوهرها تقوم في قلب القرن الرابع عشر الهجري مهما أطل بنيانها على تخوم القرن الحادي والعشرين. 
تلك المفارقات الخطيرة عملت وتعمل في تاريخنا وحاضرنا وتهددنا في المستقبل بالزوال، فإذ أعلن ميلاد الإسلام نضوج العقل البشري وتحرر الإنسان، اعترت تاريخه ارتدادات وهزات متتالية متوالية، لم تخلو بالطبع من دورة ممتدة من الصعود الحضاري، أخذت من أوروبا منجزات العقل الإغريقي ولكنها ردتها إليها بعد قرون، كسوبا في العلوم والفلك وإضافة في المناهج والتجارب، لتواصل منها أوروبا صعودها الأخير الذى خاله الكثيرون منتهى التاريخ وخاتمة دورة الصعود والهبوط، قبل أن يتنبأ هنري كسينجر بأن طبول الحرب الثالثة تقرع الآذان لمن كان له قلب أو ألقى السمع. 
فبين العدل الذى تجلى قيمةً عظمى وبين الحرية التي انتصبت كمبدأً أول، ارتكس تاريخنا في طبائع الاستبداد والإنسانية توالى اقترابها بفطرتها من قيم الدين، أو بالأحرى من أصول الإسلام في تكريم الإنسان وحصانة حرماته، وفي رد السلطة إلى الأمة واعتماد الشورى آلة لها، فمهما شهدت بعض أقطار العرب تجاوباً مع تلك الموجة التاريخية التي تنشد العدل وتتوخى الاشتراكية، فإن الصيرورة أكدت أن مثل العدل دون الحرية، وشيكاً ما تتنكب الطريق، وتمسي الاشتراكيات العربية كما أمست أخواتها السابقات في شرق أوروبا بواراً وخيبةً، أو كما قال الروائي التشيكي ميلان كونديرا: إن المتحمسين الذين ظنوا أنهم وجدوا السبيل الوحيد إلى الفردوس واستفرغوا وسعهم في أخذ الشعب إليه، عندما أشرق النهار لم تجد الشعوب الفردوس واكتشفوا أن المنقذين محض سفاحين. وإذ لم يجد التقليد في استعارة نموذج الدولة الأوروبية القومية واستدعت فسحة الحرية التي تبسطها تجارب التعددية الليبرالية، تدخل الجيوش وتفشي ظاهرة الانقلاب العسكري لاستلاب الحكم، تردت الاشتراكيات إلى الديكتاتوريات، فعلى حين راحت أوروبا تقدس حرية المواطن وتصون حرماته، وترعى خياره في التداول السلمي للسلطة، أدى كبت الصحافة في بلادنا إلى غياب سلطتها الرابعة في المراقبة، ومن ثمّ تفشي الفساد، لاسيما في ظل تجارب برلمانية لا تتوخى التمثيل الحق للشعب، وإنما تقيمه ضمن مؤسسات المجتمع قبل السياسي شأن القبيلة والعشيرة والطائفة، بل إن الأحزاب نفسها بوصفها تجليا للحداثة في تنظيم الرأي أضحت مركباً ذلولاً لتجليات القرن الرابع عشر الهجري. فمع مرور الوقت تطورت نظرية المفكر الجزائري مالك بن نبي الواضحة حول قابليتنا للاستعمار، إلى حالة من التبعية لا يكاد يحيط بتعقيداتها أحد. 
تلك المفارقات التي وسمت تاريخنا المعاصر دفعت دارسين متعمقين ومراقبين منتبهين إلى التنبؤ بزوال العرب وثقافتهم ودينهم من التاريخ، فالبشرية قد اكتشفت منذ قرون طريق النهضة والتقدم المادي، وأحرزت فيه تقدماً هائلاً، وإذ أن قيمة الأمم لم تعد تحسب بمدحها لنفسها أو تبجيلها لتاريخها المجيد وإنما بإنجازها الحضاري الماثل فإن نذر نهاية التاريخ للأمم الميتة في مجرى الحضارة الدفاق، هي بشارات الاستقامة على تقدم لا انتكاس بعده للشعوب الفاعلة في التاريخ.

الثورة
منذ كانط لا يحبذ الفلاسفة والمفكرون الثورة، يرون أن التنوير هو ثمرة التطور المتدرج البطيء، بل إن ابن خلدون لا يسمى الثورة إلا فتنة تستدعي الدهماء على نحو ما وصف غستاف لوبون بعده بقرون، الجماهير يقودها عقل جمعي لا عقل له، إذ اندفعت دمرت وهلكت الحرث والنسل. كذلك كان أغلب المثقفين العرب يخشون الثورة، لاسيما النخبة المصرية، كانت ترجو في مبارك أملاً يحمل هذه الملايين التي تغلي على المرجل وئيداً نحو أفق القرن الواحد والعشرين، وقد بدأت بالفعل بشائر التقدم سوى أن الشقوة قد غلبت وارتكس الحلم في التوريث وتبدد الأمل. أما الثورة فهي مثل القيامة تأتي بغتة وقد توفرت شروطها في انسداد الأفق وتلاشي الأمل، وما نار البوعزيزي سوى شرارة وما ميدان التحرير سوى ساحة ظلت دائماً موجودة لمدى قرن. 
كان أول شرائط الثورة التي تراكمت ببطء في اللاشعور الجمعي هو تطاول الاستبداد وتعاقب الأجيال ثم التبدل الجذري في أحوال الإنسان عامة بعد ثورة الاتصالات ووقعها البالغ على العالم العربي. وفي لحظة لا يقدر أوانها راصد فذ أو مرصد متقدم، يرن جرسها في كل بيت فيخرج الجميع ويمسكون بالشوارع، ويتفاجأ الجميع بتسارع الأحداث، لا تستثنى المباغتة حتى الطلائع التي بادرت بغير رجاء كبير أن تنجز تضحيتها الشجاعة حلم الثورة وسقوط النظام. 
وفي غمرة ذلك السيل الجارف قد تفقد بعض وسائل الإعلام مهنيتها الباردة، كما حدث مع «الجزيرة» عندما اختارت التاريخ على المهنية. وقد تخرج أنظمة على الخطوط الحمراء الإقليمية كما فعلت قطر والسودان، أو كما يفعلون جميعاً اليوم في اليمن. وقد تخرج أخرى على الخطوط الحمراء الدولية كما فعلت أمريكا وفرنسا عندما أجهزت على القذافي بالقاضية. وإذ صدقت رؤية كانط على الحالة الأوربية قبل ثلاثة قرون، تصدق اليوم في الجيل العربي الراهن، فعندما دقت الثورة لم يكتمل التنوير، وظل منحصراً نخبويا مقلدا عاطلا عن الابداع، ففيما استنفدت حركات الإسلام الحديثة كل ما تملك وأضحت عبئا يحمله التاريخ ولا يكاد يطيقه، يواجه الإسلام نفسه ما يواجهه العرب، الخروج النهائي من مسرح التاريخ. وسوى أن القرآن كتاب خالد لم يزل إلى لحظتنا الفارقة مجالاً خصبا للعطاء وحقلاً لا ينضب من الدراسة، فإن الأمل في دور إنساني للإسلام، ربما يأتي من هنالك حيث يتوالى البحث الجاد وتتالى الثمرات المبهرة، فالعقول التي فجرت الذرة وأشرعت ثورة الاتصالات وأرسلت الطائرات والصواريخ العابرة للقارات، هي ذاتها التي أبدعت المناهج الحديثة في حفر النصوص وسبر أغوارها، فثورة السيلكون التي رسمت ملامح الثورة الصناعية الثانية، هي أخت الثورة الألسنية التي وطدت مناهج البحث لما بعد الحداثة.

الأزمة
ربما الوصف الأنسب لدول الخليج المثخنة بالنفط أنها معلقة بمشجب واهٍ على جدار العصر، لم تبلغ في مأزقها بَركة المسيح المصلوب أو المرفوع، ولكن تٓعقّد موقفها لا يقل عن عُقد ظله الممتد من الماضي إلى الحاضر عبر التاريخ. والغريب أن عدوها العاقل والجاهل معاً رغم رسوخه حضارته في التاريخ يعاني من أثقالها ذاتها، فإيران التي تعيش بكامل عقلها في المنجز العلمي والصناعي الحاضر، وتعيش بتسعة أعشار روحها في التاريخ حيث كربلاء وتحيا بعشر في القيامة حيث الآخرة، يخطئ الدبلوماسيون حيث يعرفون العلاقات الدولية والسياسة عموماً إنما تحركها المصالح، وينسون أن ثلاثة ملايين يهودي هجروا العيش الرغيد في العالم الأول وتركوا ميراث آبائهم ماركس وفرويد ودروكهايم، أئمة علوم العصر الثلاثة، وانضموا إلى عصابات الهجانة بحثاً عن تراث الأب الأكبر يعقوب، ابن ابراهيم أبي المسلمين أيضاً. وإذ يربك عليهما التاريخ معاً تحديد العدو الحق، تتوهم السعودية وإيران أنهما تتقاتلان عن ثارات الحسين ويزيد.
القدس العربي 
siege auto

ليست هناك تعليقات