كيف وقع الجنيه السوداني في فخ السوق السوداء المصرية؟
For your copy-and-pasting pleasure.
«يوجد مبلغ ضخم من العملة السودانية فئة 50 جنيهًا وأريد مشتريًا، وسنحصل أنا وأنت على 50% من المبلغ»، كان هذا ملخص ما قاله لي أحد المعارف خلال اتصال هاتفي تكرر كثيرًا خلال الفترة الماضية بصيغ مختلفة وأشخاص مختلفين، ولكن الرابط المشترك هو الجنيه السوداني والفئة 50، المثير في الأمر أن الحديث يدور حول مبالغ تصل إلى الملايين، وما بين شبهة التزوير واحتمال أن يكون هذا الأمر إحدى حيل النصب، برر بعض المتعاملين في سوق الصرف هذه الموجة، وهذا الاتجاه نحو الجنيه السوداني في مصر، لكن ما يجعل الأمر أكثر غرابة هو استمرار هذه الموجة في ظل التدهور المستمر للعملة السودانية.
تدور الكثير من الأسئلة حول هذا الاتجاه الذي لاحظه كل المتعاملين بسوق الصرف تقريبًا، وأبرز هذه الأسئلة: من أين حصل هؤلاء الأشخاص على هذه الكميات الضخمة من العملة السودانية؟ وكيف يتصرَّف المشترون فيها؟ ناهيك عن الأسئلة المتعلقة بالوضع في الداخل السوداني من حيث تأثير تلك المضاربات على الوضع الاقتصادي في البلاد، وخلال السطور القادمة سنحاول الإجابة على أغلب هذه الأسئلة، ونوضح الصورة أكثر.
هل يوجد سوق سوداء للجنيه السوداني في مصر؟
في 31 يناير (كانون الثاني) الماضي كشفت نيابة أمن الدولة بالسودان عن أنها تحقق في ملف دعوى جنائية خاص بضبط عملة سودانية مزيفة دخلت إلى البلاد في حوزة متهمين عبر معبر أرقين مع مصر؛ إذ تم اتهام المقبوض عليهم بتهم التزييف والتهرب الجمركي وتخريب الاقتصاد الوطني، حيث تم ضبط 315 ألف جنيه سوداني من فئة 50 جنيه مزورة.
السلطات السودانية قالت حينها: «إن عملية التزوير تمت في دولة أجنبية ويتوقع أن تكون هناك مبالغ أكبر من المضبوطة، والأهم من ذلك هو أن المتهمين اعترفوا أنهم سبق أن أدخلوا إلى البلاد ملايين الجنيهات المزورة، وهو الأمر الذي يجعلنا بالطبع نربط بينه وبين موجة التجارة في العملة السودانية في مصر».
بحسب صاحب صرافة بالقاهرة تحدث لـ«ساسة بوست» فقد عُرض عليه مبالغ كبيرة من الجنيه السوداني مؤخرًا، وكل هذه المبالغ كانت فئة الـ50 جنيهًا، موضحًا أنه أصبح من الشائع حاليًا وجود هذه المبالغ التي وصفها بالمزورة، مشيرًا إلى أن هذه الأموال يتم استخدامها في العمليات المشبوهة، سواء في بيع السلاح أو الآثار.
ومن خلال البحث أكثر خلف هذا الأمر وجدنا بالفعل أن هناك مجموعة على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» باسم «بيع وشراء آثار فرعونية» يبلغ عدد أعضائها أكثر من 14 ألف عضوًا، ولا يمر يوم دون وجود عدة منشورات تروج لشراء وبيع كميات كبيرة من العملة السودانية فئة 50 جنيهًا.
هذا الأمر جعل معظم الصرافات في البلاد لا تتعامل بالجنيه السوداني؛ إذ يقول صاحب الصرافة – الذي فضَّل عدم ذكر اسمه – إنه توقف عن التعامل بالجنيه السوداني بعد أشهر من تعويم العملة المصرية؛ مبررًا ذلك بمخاطر التعامل بها، وضعف العائد الذي قد يحصل عليه مقابل التعامل بهذه العملات؛ بسبب حدود الـ«10 قروش» المسموح بها من قبل البنك المركزي المصري.
«ساسة بوست» تواصلت كذلك مع تاجر سوداني في القاهرة، أكد أنه أصبح الآن لا يتعامل سوى مع صرافة واحدة يعمل بها سودانيون؛ وذلك لصعوبة التعامل مع أماكن أخرى.
هل هناك كميّات كبيرة من العملة المزورة في السودان؟
يرى وائل علي، الناشط السوداني، أن ظاهرة التزوير في بلاده محدودة جدًا، وليست له القدرة على تحقيق الهلع الكبير الموجود الآن بالسوق السودان، متهمًا الحكومة بأنها سبب ذلك الانهيار في العملة بالطبع الجنوني للعملة الذي يتم منذ عام 2013، على حد وصفه.
وتابع علي خلال حديثه لـ«ساسة بوست» أن الجنيه السوداني لم يعد تحت سيطرة الدولة، بل هو تحت سيطرة تجار العملة؛ إذ أصبح القسم الأكبر من السيولة في يد السوق السوداء، فيما لم يستبعد أن يكون هناك تورُّط مصري في هذه الأزمة من خلال توفير ملاذات آمنة لبعض تجار العملة السودانيين، وكذلك السماح لبعض المعارضين المتواجدين على أراضيها ببث الخوف والهلع وترويج شائعات تدمر الاقتصاد، كالترويج لسحب الأموال من البنوك والترويج لإفلاس بنوك حكومية.
على الجانب الآخر، وبحسب مصادر صحفية سودانية، فإن هناك تسريبات تشير إلى أن نسبة التطابق بين الورقتين الأصلية والمزورة بالنسبة لفئة 50 جنيهًا تبلغ 96%، وهو الأمر الذي يجعل أمر اكتشافها ليس صعبًا على المواطنين فحسب، بل على مراكز الفحص والتدقيق أيضًا، بينما تشير التسريبات إلى أن الفروق بين العملة المزورة والأصلية غير ملحوظة، ولا يمكن الانتباه لها بسهولة.
وفي إطار محاولة البلاد ضبط السوق، اعترفت الحكومة السودانية بامتصاص السيولة؛ لتحجيم الكتلة النقدية خارج النظام المصرفي مؤخرًا، وذلك في أول إقرار رسمي بإجراءات غير معلنة بتحديد سقف للسحب النقدي بالبنوك، وجاء ذلك خلال اجتماع لمسؤولين اقتصاديين وأمنيين برئاسة الرئيس السوداني عمر البشير.
الاجتماع ناقش أزمة فئة 50 جنيه المزورة، إذ أكَّد البنك المركزي أنه سيتخذ إجراءات في هذا الخصوص، وذلك إلى جانب ضرورة استقطاب مدخرات المغتربين وتحويلاتهم وتسهيل التمويل العقاري لهم، وبينما تشير التقديرات إلى أن نسبة المزور في هذه الفئة وصل إلى نحو 10% في السوق، وذلك بحسب مسح للمركزي، وبالطبع فهي نسبة مرتفعة جدًا تشير إلى أن المشكلة ليست صغيرة.
ويبدو أن الحكومة السودانية تدرك حجم الأزمة؛ إذ إن هذا الاجتماع هو السادس من نوعه للجنة العليا لمحاصرة سعر الصرف، التي شكلها الرئيس البشير في يناير الماضي خصيصًا لمحاصرة سعر الدولار في أعقاب تصاعده أمام العملة المحلية.
إلى أين وصل الجنيه في السودان؟
بعيدًا عن أزمة التزوير، فقد هوت عملة البلاد إلى مستوياتٍ قياسية منخفضة في السوق السوداء خلال الأشهر القليلة الماضية، وذلك في ظل تخفيض قيمتها إلى 18 جنيهًا مقابل الدولار مع بداية 2018، مقارنة مع 6.7 جنيه في بداية 2017، وفي وقت سابق هذا الشهر سمحت الحكومة للعملة بالهبوط إلى مستوى بلغ 31.5 جنيهًا مقابل الدولار.
المركزي السوداني رفع السعر التأشيري – إضافة حافز للسعر الرسمي – بداية من فبراير (شباط) الجاري إلى 30 جنيهًا؛ وذلك بهدف استقطاب مدخرات السودانيين العاملين بالخارج وعائدات الصادرات، ولكن بالرغم منذ ذلك لم يستقر السعر عند هذا المستوى، ولكن رغم هذا التخفيض، فإن الدولار غير متوفر لجميع الشركات، لذلك تشهد السوق السوداء انتعاشًا كبيرًا، وأصبحت هي المعبرة أكثر عن السوق؛ إذ هبط الجنيه السوداني إلى نحو 40 جنيهًا للدولار في وقتٍ سابق من هذا الشهر.
وجرى تداول الدولار في البنوك التجارية في 13 فبراير الجاري، بحسب بيانات البنك المركزي، في نطاق 29 : 30 جنيه للدولار؛ مما يشير إلى تراجع الفجوة بين سعر السوق الموازية وسعر السوق الرسمية، والتي كانت قد سجلت مستويات قياسية في أوقات سابقة، وذلك في ظل محاولات البنك المركزي للسيطرة على الوضع، إذ إنّ البنك حظر الودائع بالعملة الصعبة التي مصدرها السوق السوداء؛ وهو الأمر الذي حد من الصعود أكثر للدولار.
كيف تأثّر الاقتصاد السوداني بتقلبات العملة؟
يعاني الاقتصاد السوداني العديد من المشاكل الاقتصادية، تفاقمت بشكل كبير منذ انفصال الجنوب عام 2011، وذلك بعد الاستقرار النسبي على المستوى المالي والنقدي في فترة ما قبل الانفصال، ولكن كان من المتوقع أن يتحسن الوضع نسبيًا بعد القرار الأمريكي في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي برفع العقوبات الاقتصادية عن البلاد بعد أكثر من عقدين على فرضها.
واعتبر المسؤولون الحكوميون القرار وقتها بأنه فتح يمكّن السودان من الانتقال إلى مرحلة التطور، ولكن بعد مرور أكثر من 4 أشهر على هذا القرار لم يتحسّن الوضع، بل كان الوضع أسوأ كثيرًا فيما يخص عملة البلاد، بينما رأى القيادي في الحزب «الاتحادي الديمقراطي/الأصل»، علي نايل، أنّ رفع الحظر الاقتصادي في ظل سياسات اقتصادية، وصفها بالعقيمة، غير مُجدٍ؛ إذ إن هذه السياسات هي التي أدت إلى مشكلات البلاد الحالية، مشيرًا إلى أن العقوبات الاقتصادية لا تتعدى جزءًا يسيرًا من أسباب تدهور الوضع الاقتصادي في البلاد.
وبشكل عام، يعد التضخم أكبر المشاكل الاقتصادية التي نتجت عن أزمة الدولار في السودان؛ إذ قال جهاز الإحصاء المركزي: إن التضخم في السودان قفز إلى 52.37% في يناير، من 32.15% في ديسمبر (كانون الأول)، فيما كانت نسب التضخم في البلاد قد بلغت 25.15% في ديسمبر 2017، مقارنة بالفترة المناظرة من العام السابق له، وهو ما يعني أن الزيادة في معدل التضخم تجاوز الـ100%.
ووفقًا لمدير عام جهاز الإحصاء، كرم الله عبد الرحمن، فإن هذا هو أعلى معدل للتضخم في سنوات، مرجعًا هذه القفزة إلى القرارات الاقتصادية الأخيرة للحكومة السودانية ضمن موازنة العام الجاري.
وبعد رفع العقوبات الأمريكية، كان من المتوقع زيادة الاستثمارات الأجنبية في البلاد، إلا أن تقلبات العملة والمشاكل الهيكلية الموجودة بالسودان كان أهم أسباب عدم عودة الاستثمارات الأجنبية، كما أنه رغم السقوط الحاد للعملة لم تعمل البلاد بما أوصى به صندوق النقد الدولي من ضرورة تعويم الجنيه، معتبرًا ذلك ضروريًا لخلق الظروف اللازمة لاجتذاب المستثمرين وتعزيز التنمية الاقتصادية في البلاد.
وقال الصندوق في تقرير سنوي عن الاقتصاد السوداني، صدر بعد زيارة وفد إلى الخرطوم مؤخرًا: «إنّ توحيد سعر الصرف أمر بالغ الأهمية للقضاء على التشوهات التي تعرقل الاستثمار والنمو، وتعزيز مصداقية أجندة الإصلاحات التي تقوم بها السلطات». إلا أن السودان رفض فكرة التعويم، ولجأ إلى عدد من الإجراءات لتعزيز سعر الجنيه، فيما لم تنجح هذه الإجراءات في إحداث فارق يذكر حتى الآن.
هل ستعود السودان إلى الدينار من جديد؟
وائل علي من جانبه يرى أن هذه الأزمة تعد فرصة للحكومة لتعيد الدينار، الذي كان عملة نظام البشير بعد انقلاب 1989، وفي الواقع هذا أمر بات يتناوله الكثير من السودانيين مؤخرًا وسط انهيار الجنيه، إلا أن البنك المركزي نفى هذا التوجه بشكل كامل، مؤكدًا أنه لا يوجد أي اتجاه لتغيير العملة الحالية.
عثمان ميرغني، رئيس تحرير صحيفة «التيار» ومؤسس حزب «دولة القانون»، يرى أن سياسة اللجوء إلى الدينار مرة أخرى ستكون بمثابة لعبة أصفار، موضحًا أن أحوال العملة ترتبط بإصلاح شامل للوضع الاقتصادي الذي دخل عنق الزجاجة، وجعل السودان يعيش منذ بداية العام حالة احتقان خطر فتحت الباب أمام الكثير من التكهنات حول الوجهة التي سيتخذها مسار الأحداث من هنا.
وعمومًا قيمة العملة لا ترتبط بالمسمى، بقدر ما يرتبط بالأساس الاقتصادي، لذلك ففكرة عودة الدينار غير مجدية في ظل أوضاع اقتصادية متدهورة.
أحمد طلب*صحافي وباحث متخصّص في الشأن الاقتصادي
ليست هناك تعليقات